تبصير الأنام بمقاصد الإسلام في إسقاط النظام

 

تبصير الأنام بمقاصد الإسلام في إسقاط النظام

الحمد لله مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الملك وهو على كل شيء قدير، والصلاة والسلام على سيد الأنام، وهادم الطواغيت والأصنام، أرسله الله بالرحمة للناس أجمعين، وقمع به الظلم والظالمين، وعلى آله وأصحابه الطيبين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين، وبعد؛
فقد بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل، أضاعت الجاهلية فيها حدود الله وانتهكت محارمه، وأضل الكبراء فيها السفهاء، وأفسد هؤلاء وهؤلاء مقاصد الله تعالى في خلقه الذين خلقهم لعبادته وتوحيده، وضيعوا ما جعل الله لهم في سبيل تحقيق تلك الغاية العظمى من مصالح كلية تحفظ معاشهم في الدنيا ليسعدوا فيها وفي الآخرة؛ فضاع الدين حين تشربت عقيدة التوحيد بحب الطواغيت وطاعتها، وضاعت الأنفس في ثارات وإحن جاهلية بغيضة، وضاعت العقول في سكرات اللهو والشراب الخبيث، وضاعت الأعراض في لذة لحظة رخيصة، وأهدرت الأموال في سبيل ذلك كله إنفاقاً على سدانة أوثان الشرك، وعلى سفك الدماء المحترمة، وعلى امتهان العقول الصحيحة، وعلى الاتجار في أبضاع النساء، وعلى أكل أموال الناس بالباطل. وكانت تحرس هذه المفاسد كلها منظومةٌ سياسيةٌ اجتماعيةٌ متينة تنقض على أي تهديدٍ يمس أمنها انقضاض السباع الضواري على فريستها، ولهذا أعلنت قريشٌ الحرب على دعوة التوحيد التي بعث الله تعالى بها محمداً صلى الله عليه وسلم مع علمها أنها دعوة الحق، لأنها كانت دعوة إصلاحٍ تقيم ما هدموه من مقاصد الله في خلقه، ولأنها كانت دعوة إنقاذٍ للبشرية التائهة من العبودية البغيضة لبعضها البعض، ولأن رياسة قريش في الكفر والجاهلية كانت قائمة على علاقة تعايش متبادل مع منظومة إفساد الكليات الخمس الكبرى من الدين والنفس والعقل والعرض والمال،ولأنها استشعرت أن دعوة محمدٍ صلى الله عليه وسلم كانت تمثل تهديداً للمنظومة السياسية الاجتماعية التي تقوم فيها قريش بإفساد هذه الكليات وتسهر على حماية الفساد فيها، وقد استشعرت قريش لهذا كله أن هذه الدعوة المحمدية في الواقع ليست إلا دعوةً لهدم أركان الفساد والإفساد الذي تمثله المنظومة السياسية الجائرة، لقد كانت في الواقع دعوةً إلى إسقاط النظام...
وإن المتدبر في فصول السيرة النبوية المباركة ليدرك شدة عناية النبي صلى الله عليه وسلم بتحقيق التوازن الدقيق بين تعهد شجرة التوحيد تحقيقاً لقصد الله من الخلق، وبين حفظ مقومات تحقيق الاستخلاف البشري من حفظٍ للأنفس والعقول والأعراض والأموال باعتبارها سبل المعاش الدنيوي التي تهيئ للمعاد الأخروي، وبلغت العناية حداً أذن فيه النبي صلى الله عليه وسلم لثلةٍ من الصحابة في الهجرة إلى أرضٍ بعيدةٍ عن أرض المعركة، وإلى أرضٍ لم تقم فيها شجرة التوحيد بعد، ولكنها أرضٌ تحقق فيها معيار مهم كان له دورٌ مفصلي في تأمين حفظ الكليات الشرعية الضرورية الخادمة للمقصد الشرعي الأسمى وهو توحيد العبودية لله، وكان عنوان هذا المعيار كما عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم: "إن بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم"...
العدالة والصدق إذاً هما السبيل إلى خروج المضطهَدين مما هم فيه من ضيقٍ وقمعٍ يمنعان المسلم من عبادة ربه، ويحجبان عن غير المسلم سماع دعوة ربه ليختار الاهتداء أو الإعراض عن بينة، كما قال تعالى: (ليهلِك مَن هلك عن بيِّنةٍ ويحيى مَن حيَّ عن بيِّنة وإن الله لسميعٌ عليمٌ) ، والعدالة والصدق هما السبيل إلى تحقيق مناخ: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) ، وهذه المنظومة هي منظومة الحق المعارضة لمنظومة الباطل القائمة على النقيضين المذمومين أعني الظلم والكذب؛ فالظلم – وهو في لغة العرب النقص – يؤول إلى وضع الشيء في غير محله، فتوضع العبادة لغير الله، وتستحل الدماء لغير حق، وتضيع العقول في غير ما وضعت له، ويستمتع بالأبضاع في غير ما أحلت له، وتهدر الأموال في غير ما تصلح له. والكذب بريد الفجور، والفجور بريد الضلالة، والضلالة بريد جهنم. ولهذا تجد أن القرآن الكريم قرن إهلاك الأمم وزوال الأنظمة بالظلم حيث قال تعالى: (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لمَّا ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين) ، وقرن الظلم الموجب لزوال الأمم بالكذب حيث قال تعالى: (فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذَّب بآياته إنه لا يفلح المجرمون) ، ثم بين القرآن الكريم أن أنظمة الظلم هذه زائلةٌ لا محالة؛ إن بسببٍ شرعي يقوم به طائفة من أهل الحق بالإنكار على الظلمة المفسدين في الأرض كما قال تعالى: (فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقيةٍ ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أُترفوا فيه وكانوا مجرمين) ، وإن بسببٍ كوني يهلك الله تعالى به الظالمين وأتباعهم غير آبهٍ بمن عطّل شرعه وتخاذل عن نصرته، كما قال تعالى: (فكذَّبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسوَّاها. ولا يخاف عقباها) ، فأنظمة الظلم والكذب أنظمةٌ زائلةٌ لا محالة، وهي أنظمةٌ اجتمعت فيها الإرادة الشرعية والإرادة الكونية على زوالها، نعم، اجتمعت الإرادتان على إسقاط النظام...
فإذا تبين أن زوال نظام الطاغوت الظالم الكاذب؛ الظالم في نقص الشعب حقوقه، والكاذب فيما يمني به الشعب من وعوده، فإن المقصود من زوال هذا النظام وسقوطه يتحقق على مراحل يسلم بعضها إلى بعض، ويفتقر بعضها إلى بعض:
فأول هذه المراحل تحقيق ميزان العدل وحلية الصدق في المجتمع حاكماً ومحكوماً، ولا مانع أن يتحقق من العدالة والصدق في هذه المرحلة مطلق معنى العدالة والصدق بحيث يتاح لكل أحد أن يأخذ فرصته العادلة في تقليب بضاعة المعتقدات والأفكار، ويسمح لكل أحد بعرض بضاعته بنزاهة وصدق دون قهر للمعتقد أو تزويق للباطل أو ترويج بالغش والحيلة، وليكن المنهج في هذا مقتبساً من سنن النبوة كما قال الله تعالى: (قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنّا أو إياكم لعلى هدىً أو في ضلالٍ مبينٍ) ، وقال تعالى: ( أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعَلَيَّ إجرامي وأنا بريءٌ مما تجرمون) ، والسر في هذه المسألة أن بضاعة الأنبياء ومن ورث هديهم هي البضاعة الرائجة التي لا يخشى صاحبها المنافسة، فليعرض كل صاحب بضاعة بضاعته، وإذا تأملت إلى زبالات عقول البشرية التي يتاجرون بها ويستقطبون بها عقول الناس ويستميلون بها قلوبهم اليوم لوجدت شيوعية ملحدة ورأسمالية مجرمة ومشارب أخرى بين بين، قد مجها الناس وانتابهم منها غثيان شديد، فلنحرص إذاً على إنجاز مرحلة تحقيق العدالة والصدق الاجتماعي ولو في إطار دولة مدنية تمكن للكل من عرض بضاعته، ولنحسن عرض بضاعتنا فلا يكون أهل الباطل بتزويقهم أحسن عرضاً منا للحق الذي معنا بسوء تمثيلنا له وتطبيقنا له، ولنذكر قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها وهي تحكي نهضة هذه الدعوة واشتداد عودها حتى استوت واستغلظت واستوت على سوقها، قالت رضي الله عنها: "إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصَّل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام. ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنا أبداً. لقد نزل بمكة على محمد صلى عليه وسلم وإني لجارية ألعب (بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر) ، وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده" .
فإذا سقط النظام وتحقق المقصد الشرعي بإرساء قواعد العدل والصدق في المجتمع كان ذلك تحقيقاً لمشتركٍ إنسانيٍ مشروعٍ يندرج تحت وصف الإسلام كونه رحمةً للناس كافة، ثم ينتقل من هذه المرحلة إلى المرحلة الثانية حيث يحقق الناس مصالحهم في حفظ النفس والعقل والعرض والمال وفق منظومة :"إن فيها ملكاً لا يظلم عنده أحد"، حتى إذا اطمأن الناس لذلك ولم تعد تشغلهم نوازع الحاجات الفطرية ومتطلبات الكرامة الإنسانية أمكن تبصيرهم بمصلحتهم في حفظ الدين من حيث الإمكان على أقل تقدير، ومعنى الإمكان أن لا يحال بين الناس وبين سماع دعوة رب العالمين بظلمٍ أو كذب، حتى إذا ذاق الناس حلاوة الإيمان أيقنوا أن ما كانوا مشتغلين به من هموم الطعام والشراب والماء والهواء والمأوى والكساء هو أليق بالبهائم، وأن حظهم من الكرامة الإنسانية لا يتحقق إلا إذا كانت نوازعهم لحفظ أرواحهم بالدين الحق أشد من نوازعهم لحفظ أجسادهم بالماء والغذاء، وهذه المرحلة بطبيعتها تسلم الناس إلى المرحلة المنشودة وهي تعبيد الناس لرب الناس، حيث قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) ، والترفع عن التحاكم في الدماء والأعراض والأموال لغير واهبها والقائم عليها سبحانه وتعالى،حيث قال تعالى: (إنما كان قولَ المؤمنين إذا دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون) ، وهذا هو المقصد الأسمى من إسقاط النظام، كل نظامٍ مساندٍ للفساد، وظالمٍ للعباد، فإنه آيلٌ للسقوط، مستحقٌ بذلك الظلم والطغيان الزوالَ المحقق في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة، قال الله تعالى: (ولَمَن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل.إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم) ، فهنيئاً للمؤمنين الأحرار في بلاد الإسلام الزكية انتصارهم على الظلم والكذب، وهنيئاً لهم سعيهم للعدالة والصدق، والله نسأل لهم السداد في تحقيق مقاصد الشرع إسعاداً للعباد، وسعياً في نيل رضا رب العباد...
ألا فلتزحف جنود الحق إذاً في كل مكان لتظهر على عروش البغي والطغيان، ولتهدم معاقلهم، ولتدك حصونهم، ولتزلزل الأرض تحت أقدامهم، ولتخلع قلوبهم برعب الله أكبر، لتزحف وفي يمينها مشاعل النور تستنقذ بها البشرية من الظلم والكذب، وتنير حياتها بالعدل والصدق، العدل في الحكم والصدق في القول كما قال الله تعالى: (وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم) ، وإنا والله لنكتب هذه الكلمات على يقين بصدق وعد الله، وعلى حسن ظنٍ بالله تعالى، فأبشري أمة الإسلام بزهوق الباطل وأهله، وعلو الحق وأهله إن شاء الله، والله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

وكتب الفقير إلى عفو ربه

د. وسيم فتح الله


الكاتب: د. وسيم فتح الله
التاريخ: 28/04/2011